صاحب معالي الدكتور أحمد روبله عبد الله، رئيس جمعية الصحة العالمية الخامسة والسبعين، فخامة السيد ألان بريست، رئيس الاتحاد السويسرى، فخامة السيد فيليبي جاسينتو نيوسي، رئيس موزامبيق، سعادة السيدة جاسيندا أردرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، إلى جانب تقلدها لوظائف أخرى، السيد جيانو إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، السيدة رينيه فليمنغ، سفيرة النوايا الحسنة الجديدة لدى المنظمة المعنية بالفنون والصحة وترافقها بريتي ياندي من جنوب أفريقيا، أعضاء جوقة Global Scrub choir، أصحاب المعالي والسعادة الوزراء ورؤساء الوفود، الزملاء والأصدقاء الأعزاء،
اسمحوا لي أولاً أن أبدأ بتوجيه الشكر إليكم يا فخامة الرئيس بريست على دعمكم وشراكتكم بصفتكم الشخصية، وعلى ما تقدمه سويسرا من دعم وشراكة مستمرين للمنظمة والصحة العالمية.
وأتوجه أيضاً بالشكر إليكم يا فخامة الرئيس نيوسي على حضوركم معنا اليوم، وعلى التزامكم بمجال الصحة، بما يشمل ما تقدمونه من دعم في مجال الملاريا ومسيرة بلدكم في سبيل تحقيق التغطية الصحية الشاملة.
وأتوجه أيضاً بالشكر إليكم يا دولة رئيسة الوزراء السابقة أردرن على دوركم القيادي في مجال الصحة العالمية، وبخاصة على قيادتكم المتحلية بالتواضع. فهذا هو ما نريده من جميع قادتنا: القيادة المتحلية بالتواضع. فشكراً جزيلاً لكونك نموذجاً يحتذى به في هذا الشأن.
وأتوجه إليكم بالشكر يا معالي الوزير عبد الله، على قيادتكم لجمعية الصحة العالمية الخامسة والسبعين التي سيخلدها التاريخ.
ولكم الشكر يا سيد إنفانتينو على شراكتكم في تسخير قوة هذه اللعبة الجميلة من أجل الصحة، وأهنئكم على احتفالكم اليوم بمرور 119 عاماً على تأسيس الاتحاد الدولي لكرة القدم. فكل عام والفيفا بخير.
وشكري موصول للسيدة رينيه فليمنغ وجوقة Scrub Choir على إلهامنا وتحريك مشاعرنا وتسليتنا من خلال هذه الوسيلة القوية المتمثلة في الموسيقى.
وأشكركم جميعاً على حضوركم بيننا اليوم للاحتفال بجمعية الصحة العالمية التاريخية هذه في عيد المنظمة الخامس والسبعين.
أصحاب السعادة، الزملاء والأصدقاء الأعزاء،
في عام 1977، كان علي ماو معلين شاباً في الثالثة والعشرين من عمره يعمل طباخاً في مستشفى في ميناء ميركا بالصومال. وبالإضافة إلى مهامه في المطبخ، كان معلين يعمل مشرفاً على التطعيم في برنامج المنظمة لاستئصال الجدري، الذي كان يطارد آخر حالات الجدري المتبقية في صفوف مجموعات البدو الرحل على طول الحدود الصومالية مع بلدي إثيوبيا، وقضى عليها.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام، أُرسل طفلان مصابان بالجدري من إحدى المجموعات البدوية أو المجموعات الرعوية، إلى معسكر للعزل على مقربة من ميركا. وتوقف السائق الذي كان ينقلهما أمام المستشفى الذي كان يعمل فيه معلين لسؤاله عن طريق الوصول إلى المعسكر. وعرض معلين عليهم مرافقتهم، وسأله السائق عما إذا كان قد تم تطعيمه. فقال معلين، "لا تُلق بالاً لذلك، وهيا بنا." ولم يكن قد تم تطعيمه.
وبقي معلين في حضرة الأطفال المصابين لمدة 15 دقيقة. ولكن هذا كان كافياً. فبعد تسعة أيام بدأ يستشعر المرض، وأصيب بطفح جلدي. وشُخصت إصابته بالحماق وأُرسل إلى داره. ولكن معلين كان يعرف أن الإصابة لم تكن بالحماق. وكان أخشى ما يخشاه هو الذهاب إلى معسكر العزل، لكن ممرضة في المستشفى أبلغت عن مرضه.
فتوقف المستشفى عن استقبال المرضى، بينما تم تطعيم كل من كانوا بداخله وأودعوا الحجر الصحي. وفي الوقت نفسه، بدأ أحد الأفرقة تطعيم كل السكان المحيطين بمنزل معلين – أي أكثر من 000 50 شخص في غضون أسبوعين.
وكان علي ماو معلين آخر حالة مسجلة من حالات الإصابة بالجدري حدثت بطريقة طبيعية. وواصل العمل مع المنظمة في حملة استئصال شلل الأطفال في الصومال. واعتاد على أن يقول إن الصومال كان آخر بلد يتخلص من الجدري، وأنه يريد التأكد من أنه لن يكون آخر بلد يتخلص من شلل الأطفال، وقد صدق. وفي عام 2013، وأثناء حملة لمواجهة تفشي شلل الأطفال، أصيب معلين بالملاريا وتوفي بعد بضعة أيام عن عمر يناهز 59 عاماً.
وكان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور ماركولينو كانداو، قد بدأ حملة استئصال الجدري في عام 1959، وانتهت الحملة رسمياً في عام 1980 بإعلان جمعية الصحة "أن العالم وجميع شعوبه قد نجحوا في التخلص من الجدري". والدكتور كانداو، بالمناسبة، من البرازيل، وقد أردت اليوم استخدام كلمتي لإبداء تقديري لجميع مديرينا العامين السابقين. وسوف أتحدث عن الدكتورة غرو هارلم برونتلاند فيما بعد. ويظل هذا هو أعظم إنجاز في تاريخ الصحة العامة، ويعد الجدري المرض البشري الوحيد الذي تم استئصاله حتى الآن.
بيد أننا نقف اليوم على أعتاب استئصال مرضين آخرين: شلل الأطفال والدودة الغينية. عند استهلال البرنامج العالمي لاستئصال شلل الأطفال في عام 1988 في عهد المدير العام هيروشي ناكاجيما من اليابان، كان يوجد ما يقدر بنحو 000 350 حالة سنوياً. وفي هذا الوقت من العام الحالي، لم يعد هناك سوى ثلاث حالات. وعندما بدأ برنامج استئصال الدودة الغينية في عام 1986، كان هناك ما يقدر بنحو 3,5 ملايين حالة بشرية في 21 بلداً. وفي العام الماضي، تم الإبلاغ عن 13 حالة فقط من أربعة بلدان. سوف ننهي هذه المهمة. وهذا لزام علينا. غير أن عملنا لن يكون قد انتهى بذلك.
لقد نشأتُ بجوار معلين في إثيوبيا. وكلنا جيران في أفريقيا. وكانت واحدة من أقدم ذكرياتي هي السير مع والدتي في شوارع أسمرة، التي كانت آنذاك جزءاً من إثيوبيا، ثم صارت الآن جزءاً من إريتريا، ومشاهدة الملصقات عن مرض يسمى الجدري ومنظمة كانت تستأصله من مجتمعاتنا.
لم أكن قد سمعت قط عن الجدري من قبل. ولم أكن قد سمعت قط عن منظمة الصحة العالمية. ولم يكن بمقدوري الإشارة إلى جنيف على الخريطة. لكنني كنت أعرف أنه يمكن للأمراض أن تتسرب، في بعض الأحيان، إلى الأطفال وتسلبهم حياتهم.
كنت أعرف ذلك، لأن هذا هو ما حدث لأحد أشقائي، أخي الأصغر. لا أعرف ما هو المرض الذي أودى بحياته. لعلها الحصبة. ولكن أغلب ظني أنه أصيب بمرض كان من الممكن الوقاية منه بلقاح.
لقد دفعت اللقاحات بالجدري إلى غياهب النسيان. ولكن الملايين من الأطفال في مختلف أنحاء أفريقيا وحول العالم، وهم أطفال مثل أخي تماماً، لاتزال تُسلب حياتهم بسبب أمراض استفاد الأطفال في البلدان الأخرى بالتمنيع ضدها.
ولهذا السبب، أطلقت المنظمة في عام 1974 البرنامج الموسع للتمنيع بغرض ضمان استفادة جميع الأطفال، في جميع البلدان، من قوة اللقاحات المنقذة للحياة، وذلك في البداية ضد ستة أمراض رئيسية هي: الخُناق والسعال الديكي والكزاز وشلل الأطفال والحصبة والسل.
وتلقى آنذاك نحو 10٪ فقط من أطفال العالم ثلاث جرعات من لقاح الخناق والكزاز والسعال الديكي. وبفضل البرنامج الموسع للتمنيع، بلغت نسبة التطعيم 86٪ في عام 2019، لكنها تراجعت منذ ذلك الحين بسبب الاضطرابات الناجمة عن مرض فيروس كورونا (جائحة كوفيد-19)، والحملة الكبيرة جداً لمناهضي اللقاح.
واليوم، يوجد أكثر من 30 مرضاً يمكن الوقاية منها باللقاحات، ويوصي البرنامج الموسع للتمنيع بـ12 لقاحاً باعتبارها ضرورية لكل بلد. ومن خلال دعم المنظمة للبلدان لضمان إتاحة اللقاحات لجميع الأطفال، فإننا نساعد على تجنب أكثر من 4 ملايين حالة وفاة كل عام.
واللقاحات من أقوى الابتكارات في تاريخ البشرية. فبفضل اللقاحات، بات يمكن الآن الوقاية من أمراض كانت تثير الفزع في الماضي، مثل الخُناق والكزاز والحصبة والتهاب السحايا.
وأصبحت اللقاحات تعطينا الأمل في القضاء على سرطان عنق الرحم؛ وتساعدنا اللقاحات على تسريع القضاء على فاشيات مرض فيروس الإيبولا؛ وأصبحنا للمرة الأولى قادرين على أن نقول إن الملاريا مرض يمكن الوقاية منه باللقاحات؛ وكانت اللقاحات حاسمة في إنهاء كوفيد-19 كواحدة من طوارئ الصحة العالمية؛ وأوصلتنا اللقاحات إلى أعتاب استئصال شلل الأطفال.
ولقد ظل ملايين الأطفال في جميع أنحاء العالم يتمتعون لمدة تزيد على 20 عاماً بفوائد اللقاحات بفضل عمل التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع، المعروف باسم تحالف اللقاحات. وكان يقود هذا العمل، على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، صديقي وأخي سيث بيركلي، الذي سيتخلى عن منصبه في آب/ أغسطس.
وقد اعتمد التحالف في ظل قيادته لقاحات جديدة ضد سرطان عنق الرحم والملاريا والالتهاب الرئوي والتهاب السحايا وشلل الأطفال، وحقق الهدف المرحلي المذهل المتمثل في تحصين مليار طفل. وكان سيث أثناء الجائحة بطلاً للإنصاف في إتاحة اللقاحات من خلال شراكة التحالف العالمي في مرفق كوفاكس، الذي ورّد ما يقرب من ملياري جرعة من اللقاح إلى 147 بلداً. وإني لأعرب للسيد سيث عن امتناني العميق لدوره القيادي وشراكته، وأتطلع إلى العمل مع خليفته، الدكتور محمد بات، لتحقيق استفادة عدد أكبر من الأطفال بقوة اللقاحات. ولذلك، أود أن أعبر عن ترحيبي بأخي محمد بات.
وتزامن اندحار الجدري مع إدراك أنه لن يتسنى تحقيق الرؤية التأسيسية للمنظمة المتمثلة في توفير أعلى مستوى من الصحة ممكن بلوغه لجميع الناس عن طريق التصدي لمرض واحد في المرة الواحدة. بل إن ذلك يستدعي اتباع نهج شامل يقدم الخدمات الصحية التي يحتاج إليها الناس أينما ومتى كانوا يحتاجون إليها، وإن كان يحسّن أيضاً الإلمام بالمسائل الصحية والتغذية والمياه والصرف الصحي وغير ذلك من مسببات الأمراض.
لقد كان نهجاً أصبحنا نعرفه الآن باسم الرعاية الصحية الأولية، وكان كبير مصمميه والداعين إليه هو المدير العام الثالث للمنظمة، الدكتور هالفدان ماهلر. وبالمناسبة، فإن اسمه الثاني يبدأ بحرف الـT ، وهو Theodore، وبذلك فإننا نتشارك الاسم نفسه.
وقد أُطلق مصطلح "الصحة للجميع" للمرة الأولى تحت قيادة الدكتور ماهلر ليكون الموضوع الرئيسي لجمعية الصحة العالمية في عام 1977. وجرى أيضاً، تحت قيادة الدكتور ماهلر، التفاوض على إعلان ألما-آتا واعتماده في عام 1978، وهو التزام تاريخي بالرعاية الصحية الأولية كمنصة لتحقيق رؤية جريئة: توفير الصحة للجميع بحلول عام 2000. وشكّل هذا الإعلان علامة بارزة في مجال الصحة العامة غيرت طريقة تفكير البلدان في الخدمات الصحية وتصميمها وتقديمها، ولاتزال تفعل ذلك.
وعلى الرغم من أن الرؤية المتمثلة في توفير الصحة للجميع بحلول عام 2000 لم تتحقق، فإن روحها وطموحها لايزالان قائمين، ولايزال اليوم مفهوم الرعاية الصحية الأولية يشكّل أساساً راسخاً لالتزامنا المشترك بالتغطية الصحية الشاملة.
ولقد شرفت، قبل خمس سنوات، بالانضمام إلى زملائنا من اليونيسيف ووزراء الصحة من جميع أنحاء العالم في كازاخستان، مهد إعلان ألما-آتا، لتجديد التزامنا برؤيته في إعلان أستانا. ووصف الدكتور ماهلر في وقت لاحق اعتماد إعلان ألما آتا بأنه "لحظة مقدسة" و"توافق سام في الآراء".
ولكن، في عام 1981، ما كادت تمر ثلاث سنوات على ألما آتا، وسنة واحدة على إعلان جمعية الصحة العالمية القضاء على الجدري، حتى ظهر تهديد جديد، لم يسبق أن شهد العالم له مثيلاً. ففي الولايات المتحدة، تم الإبلاغ عن الحالات الأولى من مرض جديد غامض، وهو مرض ظهر أولاً في صفوف الرجال المثليين، ووردت، في غضون أشهر، تقارير عن ظهوره من جميع أنحاء العالم، مما أثر على الناس من جميع الأعمار والاتجاهات الجنسية. ولم يتسن تحديد سبب هذا المرض الجديد إلا بعد مرور عامين آخرين – فتبين أنه فيروس قهقري نعرفه الآن باسم فيروس العوز المناعي البشري.
وقد طرح فيروس العوز المناعي البشري تحدياً جديداً على المنظمة؛ وهو تحد لم تواجهه المنظمة دائماً بنجاح. وسلط الفيروس الضوء على حقيقة مفادها أن تحدياً بهذا الحجم والسرعة من تحديات الصحة العالمية لا يمكن أن تواجهه وكالة واحدة بمفردها، بل إنه يستلزم من المنظمة العمل مع الشركاء داخل منظومة الأمم المتحدة وخارجها. كما سلط الضوء بطريقة جديدة وصارخة على أوجه عدم الإنصاف الهائلة في مجال الصحة العالمية. وعندما أصبحت أولى العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية متاحة في عام 1987، لم تكن تقوى على تحمل تكاليفها سوى البلدان المرتفعة الدخل.
وبحلول نهاية القرن، دفعت شدة الوباء العالمي لفيروس العوز المناعي البشري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى اعتماد قرار بشأن فيروس العوز المناعي البشري، وكانت هذه هي المرة الأولى التي اعتبر فيها قضية صحية تهديدا للأمن العالمي.
ولكن أوجه عدم الإنصاف ظلت باقية. فبحلول عام 2003 لم يكن يحصل على الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل سوى 000 400 شخص. واعتباراً من حملة استئصال الجدري، باتت المنظمة تطور دراية مثبتة في مجال توفير الأدوية الأساسية للأشخاص الذين يحتاجون إليها، أينما كانوا. وهكذا، استهلت المنظمة، بقيادة المدير العام آنذاك الدكتور جونغ ووك-لي، من جمهورية كوريا، مبادرة "3 في 5"، لإيصال الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية إلى 3 ملايين شخص بحلول عام 2005.
واستغرق الأمر عامين إضافيين لبلوغ الهدف، لكن مبادرة "3 × 5" وضعت الأساس للتوسع الهائل في إتاحة الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية التي قلبت الموازين في مواجهة فيروس العوز المناعي البشري. وللأسف، لم تدم حياة الدكتور لي حتى يشاهد رؤيته تتحقق. ويصادف الغد الذكرى السنوية لوفاته في أيار/ مايو 2006.
وأثناء معظم السنوات الخمسين الأولى من تاريخ المنظمة، كان عملها يركز أساساً على الأمراض المعدية التي تضرب البلدان المنخفضة الدخل. ولكن جائحة جديدة كانت تنتشر دون أي رقيب تقريباً على مدار تلك العقود، يغذيها أشد العوامل غير المعدية فتكاً في التاريخ، ألا وهو التبغ.
وكان الباحث البريطاني ريتشارد دول في عام 1952 قد أثبت العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة بعد وقت قصير من تأسيس المنظمة، لكن انتشار التدخين استمر في الارتفاع لعقود. والواقع أن بعض الصور من السنوات الأولى للمنظمة تظهر رجالاً في المكاتب - أجل، كان أغلبهم رجالاً - يجلسون على مكاتبهم وهم يدخنون.
ولم يحظر الدكتور ماهلر التدخين داخل مباني المنظمة حتى عام 1988. فقد حطم منفضة السجائر الخاصة به بمطرقة في بهو المنظمة، وتعهد بالتوقف عن التدخين. ولم يصبح حرم مقرنا الرئيسي بأكمله خالياً من التدخين إلا في عام 2013. بل إن مدير مبادرة التحرر من التبغ في ذلك الوقت، وهو الدكتور أرماندو بيروغا، تعرض عدة مرات لمعاملة خشنة من قِبَل موظفين في المنظمة بعد أن طلب منهم عدم التدخين في حرمها.
وبذلت بعض البلدان جهودها الخاصة للحد من أضرار التبغ، ولكنه تبين أن التبغ، على عكس فاشيات الأمراض التي تندلع في أماكن محددة، يشكّل تهديداً عالمياً يتطلب استجابة عالمية. وقد تنبأ مؤسسو المنظمة بهذه الضرورة في المادة 19 من دستورنا التي تمكّن الدول الأعضاء من اعتماد اتفاقيات أو اتفاقات بشأن أي تهديد صحي.
ولكنها كانت حكماً ظل بلا حراك حتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، عندما اقترحت محامية أمريكية، هي الدكتورة روث رومر، للمرة الأولى فكرة إعداد معاهدة دولية بشأن مكافحة التبغ. وكانت الدكتورة رومر نفسها تدخن بشراهة، وكان زوجها قد عمل لفترة وجيزة في المنظمة. واقترحت الدكتورة رومر فكرتها على نيل كوليشاو الذي كان آنذاك رئيس وحدة مكافحة التبغ في المنظمة. وأبدى كوليشو دعمه للفكرة، لكن شكوكاً كانت تساوره. فاعتماد أي اتفاقية سيتطلب أغلبية ثلثي الدول الأعضاء، ولم تكن توجد آنذاك سياسات قوية لمكافحة التبغ إلا في حوالي 10 بلدان.
ولكن الدكتورة رومر ما كانت لتقبل الرفض إجابة. وهكذا يتحقق العديد من أفضل الأفكار في مجال الصحة العالمية، وغالباً ما تكون وراءها امرأة. وشيئا فشيئاً، اكتسبت الفكرة زخماً، وفي عام 1996، اعتمدت جمعية الصحة العالمية التاسعة والأربعون قراراً يدعو إلى إعداد اتفاقية إطارية دولية بشأن مكافحة التبغ.
ومع ذلك، فقد كان تحولها إلى حقيقة واقعة بطيئاً، شأنها في ذلك شأن العديد من القرارات. ومضى عامان آخران حتى بدأت الفكرة تتقدم مدفوعة بمديرة عامة جديدة لديها التزام قوي بمكافحة التبغ، وخبرة سياسية كرئيسة لوزراء النرويج، وهي الدكتورة غرو هارلم برونتلاند. فما لبثت الدكتورة برونتلاند أن تولت منصبها حتى أعدت مبادرة التحرر من التبغ وبدأت الدعوة بلا هوادة إلى إعداد الاتفاقية الإطارية.
لكنها كانت تواجه عدواً ماكراً ويمتلك قدراً كبيراً من الموارد. وأنتم أدرى بما أقول. وفي عام 1999، تبين أن شركات التبغ كانت لسنوات عديدة تتسلل إلى المنظمة بدفع أموال لمستشارين بغرض تقويض عمل المنظمة. بل إن الموظفين في مبادرة التحرر من التبغ بدأوا يشكون في وجود أجهزة تنصت على الهواتف. وكانت الأساليب مثيرة للقلق، لكنها باءت بالفشل.
وبدأت المفاوضات بشأن الاتفاقية الإطارية في عام 2000 واستمرت لمدة سنتين ونصف. وأخيراً، وقبل عشرين عاماً من اليوم، أي في 21 أيار/ مايو 2003، وبعد ما يقرب من 30 عاماً على اقتراح الدكتورة رومر للفكرة لأول مرة، اعتمدت جمعية الصحة العالمية السادسة والخمسون اتفاقية المنظمة الإطارية بشأن مكافحة التبغ، أو اتفاقية المنظمة الإطارية.
وفي السنوات العشرين التي مرت منذ ذلك الحين، وبفضل اتفاقية المنظمة الإطارية والحزمة التقنية لبرنامج السياسات الست (MPOWER) التي تدعمها، انخفض معدل انتشار التدخين بمقدار الثلث على مستوى العالم. وأصبح ثلثا سكان العالم يتمتعون بالحماية من خلال تدبير واحد على الأقل من تدابير السياسات الست. واتفاقية المنظمة الإطارية دليل حي على قوة الاتفاقيات العالمية لتحقيق نقلة نوعية في الصحة العالمية.
والدكتورة برونتلاند معنا اليوم، وأود أن تنضموا إلي في توجيه الشكر إليها على دورها القيادي والإرث الذي تركته لنا. [تصفيق] شكراً لك يا غرو، tusen tak (شكراً بالنرويجية).
لقد تزامن اعتماد اتفاقية المنظمة الإطارية مع أول سلسلة من الفاشيات والأوبئة والجوائح التي سُجلت في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، والتي كان لها بالغ الأهمية في تحديد شكل المنظمة اليوم.
ففي شباط/ فبراير 2003، تم الإبلاغ عن الحالات الأولى من مرض جديد غريب يصيب الجهاز التنفسي ناجم عن مُمرض غير معروف ثبت لاحقا أنه فيروس كورونا. فهل يبدو هذا مألوفا؟ وكانت هذه هي فاشية المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس). وفي تلك الأثناء، تم الإبلاغ عن أولى حالات الإصابة البشرية بأنفلونزا الطيور من النمط A(H5N1)، مما أثار الخوف من ظهور جائحة للأنفلونزا بسبب فيروس أودى بحياة 6 من كل 10 أشخاص أصابهم. وعلى الرغم من أن السارس وH5N1 قد تسبباً في حالة من الذعر في العالم، فإن أياً منهما لم يتسبب في جائحة عالمية، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى القيادة القوية للدكتورة برونتلاند.
وكان لدورها القيادي أيضاً دور فعال في التنقيح الرئيسي للوائح الصحية الدولية الذي أعقب ذلك، والذي تضمن النص على أن يعلن المدير العام طارئة صحية عامة تثير قلقاً دولياً. وعلى الرغم من أنها لم تُضطر أبداً إلى استخدام هذا الحكم بنفسها، فقد أقدمت على ذلك خليفتها المديرة العامة الدكتورة مارغريت تشان، من الصين، بعد مرور أربع سنوات، عندما تسبب فيروس جديد من فيروسات الأنفلونزا في أول جائحة في القرن الحادي والعشرين: الأنفلونزا من النمطA(H1N1) .
وفي حين أن الفيروس H5N1 كان شديد الإمراض دون أن يكون شديد الانتقال، فإن الفيروس H1N1 كان على النقيض من ذلك. فعلى الرغم من انتشاره بسرعة في جميع أنحاء العالم، فإنه تسبب في مرض خفيف إلى حد كبير، وتسبب من حيث كونه جائحة في عدد قليل نسبيا من الوفيات. ومع ذلك، كشف فيروس H1N1 عن خرق خطير في دفاعات العالم في مواجهة الجوائح. وتم تطوير اللقاحات بسرعة، ولكنها لم تكد تتاح لفقراء العالم حتى انتهت الجائحة.
وأدت تلك التجربة إلى إعداد الإطار الخاص بالتأهب للأنفلونزا الجائحة، تحت قيادة الدكتورة تشان، وهو التزام تاريخي بين الدول الأعضاء للعمل معاً في مواجهة جائحة الأنفلونزا بغرض تبادل عينات الفيروسات واللقاحات. ولكن، ما كاد يجف الحبر الذي كُتب به الإطار الخاص بالتأهب للأنفلونزا الجائحة، حتى اندلع وباء جديد ومميت، لم يكن ناجماً عن الأنفلونزا، بل عن واحد من أشد الفيروسات رعباً على وجه الأرض، ألا وهو مرض فيروس الإيبولا.
وظل العالم لأكثر من عامين يشاهد في رعب مرض فيروس الإيبولا وهو يحاصر غرب أفريقيا. وعلى الرغم من أن فاشية مرض فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا لم تصبح قط جائحة عالمية، فقد سلطت الضوء على الحاجة إلى إجراء إصلاحات جوهرية في عمل المنظمة من أجل التأهب والاستجابة للطوارئ.
وأدى ذلك، في عام 2015، مرة أخرى تحت قيادة الدكتورة تشان، إلى إنشاء برنامج المنظمة للطوارئ الصحية، والصندوق الاحتياطي للطوارئ – وهو أداة تمويل مرنة مكّنت المنظمة من الإفراج عن أكثر من 350 مليون دولار أمريكي للاستجابة بسرعة لمئات الطوارئ على مدى السنوات الثماني الماضية.
وعلّم كل من هذه الفاشيات والأوبئة والجوائح العالم دروساً جديدة، وأسفر عن اتفاقيات جديدة وأدوات جديدة للحفاظ على سلامة العالم. ولكن على الرغم من ذلك، فوجئ العالم بجائحة كوفيد-19 وتبين أنه لم يكن مستعداً لها، وهي أشد أزمة صحية منذ قرن من الزمان.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، قلب كوفيد-19 عالمنا رأساً على عقب. فتم الإبلاغ عما يقرب من 7 ملايين حالة وفاة، لكننا نعلم أن عدد القتلى أعلى بمقدار عدة أمثال هذا الرقم، أي 20 مليون حالة على الأقل. وقد تسببت الجائحة في اضطراب شديد للنُظم الصحية، واضطرابات اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة.
لقد غيّر كوفيد-19 عالمنا، وكان ذلك لزاماً عليه. وقد وصفتُ كوفيد-19 في عام 2020 بأنه نفق طويل مظلم. وها نحن قد خرجنا الآن من نهاية هذا النفق. ولكي نكون واضحين، لا يزال كوفيد-19 معنا، ولايزال يقتل، ولا يزال يتغير، ولا يزال يسترعي اهتمامنا، لكنه لم يعد يمثل طارئة صحية عامة تثير قلقاً دولياً.
ونهاية كوفيد-19 كطارئة صحية عالمية ليست مجرد نهاية لكابوس استيقظنا منه. ولا يمكننا ببساطة الاستمرار على ما كنا نفعله من قبل. وهذه لحظة تدعونا إلى إلقاء نظرة إلى الوراء وتذكر ظُلمة النفق، ثم التطلع إلى الأمام والمضي قدما في ضوء العديد من الدروس المؤلمة التي علمنا إياها.
ومن أهم تلك الدروس أنه لا يمكننا مواجهة التهديدات المشتركة إلا باستجابة مشتركة. وعلى غرار اتفاقية المنظمة الإطارية بشأن مكافحة التبغ، يجب أن يكون اتفاق مكافحة الجوائح الذي تتفاوض بشأنه الدول الأعضاء الآن اتفاقاً تاريخياً لإحداث نقلة نوعية في الأمن الصحي العالمي، اعترافاً بأن مصائرنا متشابكة.
وهذه هي اللحظة المناسبة لكي نسطر فصلاً جديداً في تاريخ الصحة العالمية، معاً؛ ونرسم مساراً جديداً إلى الأمام، معاً؛ ونجعل العالم أكثر أمانا لأبنائنا وأحفادنا، معاً.
في خلال ثلاثة أرباع القرن التي مرت على تأسيس المنظمة، شهد العالم تحسينات كبيرة في مجال الصحة. فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع على مستوى العالم من 46 إلى 73 عاماً، مع تحقيق أكبر المكاسب في أشد البلدان فقراً. وقضى اثنان وأربعون بلداً على الملاريا، ودحرنا جائحتي فيروس العوز المناعي البشري والسل، ودفعنا شلل الأطفال والدودة الغينية إلى حافة الاستئصال، وتوسعنا في إتاحة العلاج الشفائي من التهاب الكبد C. وأود في الواقع أن أغتنم هذه الفرصة لأشكر رئيس الولايات المتحدة الأسبق جيمي كارتر على دوره القيادي والتزامه باستئصال الدودة الغينية الذي بات وشيكاً.
وفي السنوات العشرين الماضية وحدها، انخفض معدل وفيات الأمهات بمقدار الثلث وانخفض معدل وفيات الأطفال إلى النصف. وفي السنوات الخمس الماضية وحدها، تمت الموافقة على لقاحات جديدة ضد مرض فيروس الإيبولا والملاريا، وهي الآن تنقذ الأرواح.
وبطبيعة الحال، لا يمكن للمنظمة أن تنسب لنفسها الفضل وحدها في هذه النجاحات، فطبيعة ما نقوم به تنطوي على العمل مع الشركاء لدعم الابتكار والبلدان أثناء تنفيذها للسياسات والبرامج التي تحفز التغيير. ولكن من الصعب أن نتخيل أن العالم كان سيشهد ذات التحسينات لو لم تكن المنظمة موجودة.
إن تحديات اليوم مختلفة جداً عن تلك التي كنا نواجهها في عام 1948. فقد أصبحت الأمراض غير السارية مسؤولة الآن عن 70% من جميع الوفيات على الصعيد العالمي؛ ولا يزال التبغ يتسبب في مقتل 8,7 ملايين شخص سنوياً؛ وارتفعت معدلات السمنة ارتفاعاً حاداً؛ وسلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على العبء الهائل الناجم عن اضطرابات الصحة النفسية وضعف الخدمات الصحية؛ وتهدد مقاومة مضادات الميكروبات بإنهاء قرن من التقدم الطبي؛ ولا تزال هناك تفاوتات شاسعة في إتاحة الخدمات الصحية بين البلدان والمجتمعات المحلية وداخلها؛ والتهديد الوجودي المتمثل في تغير المناخ يعرّض للخطر قابلية كوكبنا للسكن. وتشكل أزمة المناخ أزمة صحية.
وتواجه المنظمة أيضاً تحدياتها المؤسسية الخاصة. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، زادت توقعات العالم من المنظمة زيادة هائلة، ولكن مواردنا لم تزد. ثم إن هناك التحدي المتمثل في أن تكون المنظمة مصطبغة بالطابع التقني والعلمي أثناء عملها في بيئة سياسية تزداد تسييسا.
وهذه تحديات مهولة ومعقدة. ولن نحلها في جمعية الصحة الحالية، وقد لا نحلها أثناء حياتنا. ولكننا نبني شيئا فشيئا طريقا سيسير فيه أبناؤنا وأحفادنا، وسيواصلون بناءه. وفي بعض الأحيان يكون البناء بطيئا. وفي أحيان أخرى يكون الطريق متعرجا ووعرا. لكن الوجهة مؤكدة، وهي الآن أقرب مما كانت عليه عندما بدأ أسلافنا العمل في عام 1948.
إنها الوجهة التي توخاها أول مدير عام للمنظمة، الدكتور بروك تشيشولم من كندا، أحد آباء دستور المنظمة: أعلى مستوى من الصحة ممكن بلوغه لجميع الناس.
شكراً لكم.